المجلة الصحية لشرق المتوسط، منظمة الصحة العالمية
المجلد الرابع العدد 3 ، 1998م
بقلم : صاحب السمو الملكي الأمير طلال بن عبدالعزيز
كشف تقرير التنمية البشرية، الذي أصدره برنامج الأمم المتحدة الإنمائية في مطلع أيلول/سبتمبر الماضي، عن حقائق ينبغي الوقوف عندنا بتبصر. فعلى سبيل المثال نجد أن 4,4 مليار إنسان يعيشون في الدول النامية، ثلثهم يشربون مياهاً غير مأمونة، وربعهم يعيشون في مساكن غير ملائمة، و20% منهم لا يجدون الخدمات الطبية الحديثة. كما أن 20% من الأطفال يعانون نقص التغذية، ويموت 2,2 مليون من سكان العالم الثالث بسبب التلوث. هذه الحقائق بمضامينها، وبما تشير إليه من اختلال في التوازن التنموي، من شأنها أن تنعكس سلباً على مسيرة البشرية، وخاصة في القرن الحادي و العشرين، الذي يدنو حثيثاً. إذ يُخشى أن تؤدي العواقب التي ستهيمن على هذه الحقبة التاريخية، إلى تكريس التخلف في العالم الثالث، وربما دفعه إلى أوضاع مأساوية، يكون ضحيتها الإنسان، وسيما الأطفال.
ولكن على الرغم من اللون القاتم الذي صبغ نتائج رصد أحوال الإنسان في عام 1988م، والتباينات الصارخة في معدلات النمو ومستوياته، فإن مما ينبغي الإقرار به أن ثمة جهوداً مخلصة بُذلت لتصحيح مسار التنمية البشرية في العالم، خاصة في مجال الصحة، لكونه أكثر المجالات تأثيراً على حاضر الإنسان ومستقبله، بوصفه في مركز التنمية وأحد وسائلها وغاياتها. والصحة مبعث حركة الإنسان ونشاطه. والمرض أحد ثلاث مشكلات رئيسية تواجه العالم، إلى جانب الفقر والجهل. ويوثق الصلة بين هذا الثالوث – المعطل للطاقات، المهين للكرامة – رابط عضوي ومدخلات موضوعية.
وفي ظل هذا الواقع الذي تكشفت أبعاده الضارة، ليس أمام العالم إلا مضاعفة الجهود لدعم الأغلبية المتضررة، وتوجيه عناية أكبر للأطفال والنساء، الذي يمثلون القطاع الأوسع، والأقل حظاً من التنمية بصورها المختلفة. ولقد أكدت التجارب العملية أن التعاون والعمل المؤسسي المنظم هما أنجح السبل لمواجهة المشكلات والظواهر التي تتسم بالتشابك وبالتداخل وباستمرار تأثيرها. ولا شك أن قضايا الصحة هي من أكثر ما ينطبق عليها هذا التوصيف، لأنها معنية بوجود الإنسان نفسه، وبنهوضه برسالته في إعمار الأرض. ولذلك فإن تهيئة الظروف، التي تساعد على توفير متطلبات الصحة، درء غوائل الأمراض، تعد من أهم حقوق الإنسان التي حرصت المواثيق الدولية على إبرازها، والتي ينبغي أن يستحث الإنسان عقله وجهده وطاقاته للحصول عليها .
وفي برنامج الخليج ا لعربي لدعم منظمات الأمم المتحدة الإنمائية – الذي تأسس في عام 1981م، نتيجة الإحساس العميق بمعاناة الملايين من الأطفال والنساء في العالم الثالث، ومعايشة واقعهم المرير عن قرب ترسخن لدينا مبادئ وقيم وقناعات أساسها أن حل المعضلات يكون بالنظر إلى المستقبل فإذا استغرقت هموم الحاضر الإنسان وحالت دون إعمال العقل والنظر بموضوعية في العلاقات الجدلية لتطورات الحياة، وما مضى به الأمس وما جاء به اليوم وما هو متوقع في الغد، لأصبح التفكير منقوصاً بل قاصراً، ولتشكلت منطقة ظلية في زوايا الرؤية، تعوق التوصل إلى الحلول العملية.
ومن هذا المنطلق فإن الفلسفة التنموية التي نطبقها هي أن : "تنمية العنصر البشري في مقدمة الأولويات، دون تمييز بسبب اللون أو الجنس أو المعتقدات السياسية والدينية". وفي إطار هذا التوجه نولي عناية أكبر للطفل والأم بحسبان أنهما عامة السرة، والأسرة هي نواة المجتمع. فما لم ينشأ الطفل في بيئة صحية سيظل ملاحقاً بالأمراض في المراحل المختلفة من حياته. فكثير من الأمراض، التي تستوطن بعض البلدان النامية، مثل الملاريا والبلهارسيا، تغزو الإنسان في المراحل المبكرة من حياته، وأكثر ما تبدو آثار هذه الأمراض ومضاعفاتها في سن الشباب، هذه السن التي يفترض أن تكون أوج مراحل العطاء والإنتاج والمساهمة في بناء المجتمع وتقدمه .
ومن أسس المنظور المستقبلي في توجهنا التنموي، الإيمان المطلق والثابت بجدوى التعاون من خلال العمل المؤسسي والعلمي. فلذلك، حسبما أثبتته التجارب، أقصر السبل للدخول في وعي الفئات المستهدفة، وتحقيق مردود إيجابي يمكن رصده واستقصاؤه. ونهج العمل المؤسسي بما فيه من إقرار بالتخصصات وتبادل الخبرات، ينطوي على قدر أكبر من الثقة في تحقيق الأهداف وترشيد الموارد، كما أنه يمنح قدرة أكبر على الحركة للوصول إلى المستهدفين في الوقت المناسب وبالكيفية المناسبة. في طل ما يتوقع من إمكان تزايد قابلية كثير من الأمراض على الانتشار وتخطي الحدود، نتيجة لما أصبح متوافراً في ظروف مواتية بفعل النواقل الحضارية، من الطبيعي أن تعجز المبادرات الفردية، القطرية أو الشخصية، على أهميتها، عن مواجهة ما يمكن أن نسميه "عولمة المرض" .
وقد شكلت هذه القناعات أساساً لما أقررناه من : الدخول في "حلف وشراكة" مع منظمات الأمم المتحدة الإنمائية، ومع مثيلاتها من المنظمات الدولية والإقليمية والجمعيات الأهلية العربية والطوعية ومنظمات المجتمع المدني، وذلك لدعم جهود التنمية الشاملة والمستديمة، والارتقاء بمستويات الإنسان، وفتح الخيارات أمامه ليرتقي، وكذلك تهيئة الظروف المناسبة للأجيال المقبلة، واحترام حقها في أن تحيا حياة متوازنة. وخلال مسيرة البرنامج، التي قاربت عقدين من الزمان، توطدت العلاقة مع 19 منظمة أممية ودولية وأكثر من 160 جمعية أهلية عربية. وتظل منظمة الصحة العالمية من أهم الحلفاء الذي نتبادل معهم الرأي والمشورة حول الهم الإنساني المشترك، ومن ثم العمل معاً على تحقيق الأهداف. وق توثقت عرى هذا التعاون لمصلحة الفئات والقطاعات المحتاجة في العالم. وفي اعتقادنا أن نجاح هذا التعاون يعود إلى أنه بني على أسس واقعية. ومما دعم بناءه أن طموحاتنا ورؤانا، لتوسيع آفاق الأمل للإنسانية المكلومة، التقت مع مبادئ المنظمة واستراتيجيتها القائمة على خبرات و تجارب ودراسات علمية. وقد تمثلت أهم ثمرات هذا التعاون في ما حققناه سوياً على أرض الواقع من نتائج مشجعة، ومستويات صحية أفضل للنساء والأطفال في الدول النامية. وكان الدعم المشترك مع اليونيسف، في بدايات تأسيس برنامج الخليج العربي، لحملات تطعيم الأطفال ضد الأمراض الستة القاتلة، والذي حقق انخفاضاً ملموساً في وفيات الأطفال في البلدان التي التزمت تطبيق ذلك المشروع، تمهيداً مطلوباً للعمل المشترك بين البرنامج ومنظمة الصحة العالمية. فالمشاريع العديدة، التي نفذت واستهدفت الأطفال قد بنيت على قاعدة التحصين، ووجهت إلى العناية بمرضى الإسهال، وتوفير الشروط الصحية في تغذية الطفل، والعناية بالنظافة العامة والشخصية، وتوفير مياه الشرب الآمنة السليمة، فضلاً عن العناية بالنساء الحوامل، وإجراء المسوح الصحية بهدف توفير البيانات الدقيقة والموثوقة. ومن أهم المشاريع التي نفخر بها في هذا المجال "المشروع العربي للنهوض بالطفولة" .
كما أن من أبرز الإنجازات في سياق هذا التعاون ما تحقق من تعزيز لمفهوم "ثقافة البيئة" وانتشار الوعي بين الأفراد والمجتمع بأهمية حماية البيئة والإصحاح، كون البيئة النظيفة هي خط الدفاع الأول في الوقاية من الأمراض الوبائية. ومن الشواهد البارزة في هذا المجال تأسيس "المركز الإقليمي لصحة البيئة" في عمان بالأردن، والخدمات المميزة التي يقدمها لجميع بلدان إقليم شرق المتوسط. ومن ثمرات التعاون بين البرنامج والمنظمة كذلك ما تحقق في مجال تأهيل المعاقين، وتوفير الظروف الملائمة لهم ليكونوا أعضاء فاعلين في مجتمعاتهم وتأمين ما يمكن أن ينفوا به عن أنفسهم صفة العالة، وإحلال نظرة الثقة مكان العطف السلبي. ويأتي هذا الجهد متسقاً مع الاتجاه العالمي الرامي لتعزيز دور المعاقين ودمجهم في المجتمع. وهذا الدمج في مراحله الأولى يكون بتهيئتهم صحياً ونفسياً أيضاً، وتوعية الأسرة بالأساليب الصحيحة للتعامل مع المعاق، خاصة أن من بين هذه الفئة قطاعاً كبيراً من الأطفال والمراهقين.
وإذا أمعنا النظر في مسار التعاون بين البرنامج والمنظمة، وقومنا هذا التعاون في مراحله المختلفة، يتضح أن عدداً كبيراً من المشاريع التي شارك البرنامج في دعمها وتمويلها استهدفت تعزيز الجانب الوقائي في الخدمات الصحية، وذلك قناعتنا الراسخة بأهمية الوقاية في درء خطر الأمراض، فالحكمة القديمة تقول : "درهم وقاية خير من قنطار علاج" ولذلك فنحن نضم صوتنا وجهونا إلى المنادين بضرورة الاهتمام بالرعاية الصحية الأولية وطب المجتمع، لتتوجه الجهود الصحية توجهاً وقائياً بدلاً من التوجه العلاجي الغالب في الدول النامية، والذي ينطوي على دلالات سلبية عديدة. فهو ينم عن سوء التخطيط، وإهدار موارد المجتمع وطاقاته بصرفها في إعداد تجهيزات مكلفة يكون المجتمع في غنى عنها، لو انطلق من خطة تعطي الأولوية للخدمات الوقائية زهيدة التكلفة، كما أن اعتماد توسيع مظلة الصحة الأولية يكفي الفقراء – وهم السواد الأعظم من سكان الدول النامية – تحمل تبعات العلاج التي تكون فوق طاقاتهم.
ولما كانت التوعية والتثقيف الصحي من أهم أركان الصحة الوقائية، فمن الأهمية بمكان توظيفها في مواجهة الأمراض والممارسات، التي اتخذت في الوقت الحالي ظاهرة الوباء، مثل العوز المناعي المكتسب "الإيدز" وانتشار تعاطي المخدرات والمواد الضارة، وهما من أكثر الظواهر فتكاً بالشباب، والمراهقين على وجه الخصوص. فبالإمكان كبح جماح مثل هذه الظواهر والأمراض، عن طريق تعزيز مفهوم الوقاية، وغرس القيم المحفزة على نبذ السلوك المفضي إلى الوقوع في براثن الأمراض المهلكة. وهنا يبرز دور الإعلام، والبرامج المعدة إعداداً علمياً جيداً، المستوفية لشروط التأثر والإقناع .
ومما يجعلنا نعول بقدر أكبر على الصحة الوقائية، وعلى الرعاية الصحية الأولية، أن العالم بدأ يشهد ظاهرة، أقل ما يمكن أن توصف به أنها معيبة ووصمة عار في جبين الإنسانية، ألا وهي عودة بعض الأمراض التي كان يُظن أنها انتهت إلى غير رجعة، وأصبحت في ذاكرة التاريخ. فمن المؤسف أن مرض السل، الذي فتك بالملايين خلال الحرب العالمية الثانية، قد ظهر مجدداً في بعض دول العالم الثالث، وهذا المرض – على خطورته – من الأمراض التي يمكن أن تدراً بالتثقيف الصحي، وتصحيح العادات الغذائية.
ولذلك فإننا نتطلع إلى أن تشهد المرحلة القادمة من التعاون بين منظمة الصحة العالمية والمنظمات الأخرى، وبينها وبين الدول، التركيز على الوقاية الصحية وصحة المجتمع، وأن يتبع ذلك خطوات لتكثيف المشاريع في هذه المجالات، لصالح بلدان العالم النامي.
وعلى الله قصد السبيل .