النهار، والشرق الأوسط
26 تشرين الثاني 1997
بقلم : صاحب السمو الملكي الأمير طلال بن عبدالعزيز
نرجو ألا يتبادر إلى ذهن القارئ أننا نريد من إنشاء الجامعة العربية المفتوحة، تكرار العديد من الجامعات القائمة، يحمل كل ما تعانيه هذه الجامعات من عيوب ونواقص وسلبيات تعرقلها عن أداء مهماتها في تطوير المجتمعات وتنميتها فإذا بها تتحول من دور علم وثقافة إلى معابر "جامعية" للشهادات والوظائف، وإذا بها تفقد بالتالي دورها المحوري في صناعة الحاضر والمستقبل من طريق بناء أجيال وتكوين عقول تحمل المسئولية الوطنية اليوم قبل الغد.
الجامعة العربية المفتوحة نريدها غير ذلك، من حيث الشكل والمضمون، ومن حيث الطبيعة والدور، ومن حيث المناهج وأساليب التدريس، لأننا نؤمن عن يقين بأن مهمة هذه الجامعة، المختلفة حتماً عن الجامعات التقليدية القائمة، هي فتح الطريق نحو المستقبل، نحو القرن الحادي والعشرين الذي يهل علينا، بمتغيراته وشروطه وقواعده، التي أهما العلم وحرية التفكير والاجتهاد والإبداع والابتكار.
وإذا كان التعليم، كما قال أحد المفكرين العرب الكبار في الخمسينات من هذا القرن، كالماء والهواء فإن التعليم الحديث قد أصبح حقاً أساسياً من حقوق الإنسان في عصر ثورة العلم والديموقراطية التي بدأت اجتياح العالم من عقد الثمانينات.
ولقد ساعدت ثورة تكنولوجيا الاتصال الهائلة في تحقيق ديموقراطية التعليم، وخصوصاً التعليم العالي، منم طريق الجامعات المفتوحة المتجولة ببرامجها ومناهجها عبر شبكة البث والاتصال، وجاءت شبكة الإنترنت التي تعتمد على أكثر من ثلاثين ألف شبكة أصغر، بكل تشابكاتها العنكبوتية، لتجل التعليم العالي والثقافة العالية أكثر حرية وأكثر ديموقراطية، ولتحقق في الواقع مقولة التعليم كالماء والهواء فعلاً لا قولاً فقط .
وإذا كان الدول الأكثر تقدماً في العالم، مثل الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا وألمانيا واليابان، تركز اليوم على إصلاح جذري في نظم التعليم، والتعليم الجامعي خصوصاً، استغلالاً لكل منجزات ثورة العلم والتكنولوجيا ، واستفادة من ثورة الاتصالات في التعليم عن بعد –الجامعة المفتوحة- إلا أن دولاً أخرى نامية، مثل الهند والصين وبنجلاديش، قد اقتحمت خلال السنوات الأخيرة مجال الجامعات المفتوحة، استغلالاً للتقدم العالمي من ناحية، وقفزاً فوق تخلفها ومشاكلها من ناحية أخرى، فحققت اختراقاً مشهوداً عبر الجامعة المفتوحة تجاوز كل طفرات التعليم التقليدي، المزدحم بالطلاب والمقيد بالعراقيل الإدارية.
إذا كان هذا هو حال المتقدمين والنامين من دول العالم حولنا، فما بالنا نحن العرب نقف مذهولين أمام التقدم العالمي، مندهشين أمام إنجازات الآخرين، غافلين عن حقيقة التطور بل الثورة العملية التعليمية الفكرية التي أنجزها العقل الإنساني خلال العقدين الخيرين من القرن العشرين، والتي تفوق من حيث النوع والكم كل ما أنجزته البشرية خلال قرون مجتمعة سابقة؟
نحسب أننا إن ظللنا سائرين على ما نسير عليه الآن، خصوصاً في مجالات التعليم، فإننا لن نحقق شيئاً يذكر اليوم ولا في الغد القريب أو البعيد، خصوصاً بعدما أثبت الواقع المعاش أن نظمنا التعليمية ومناهجنا الدراسية وسياساتنا وإدارتنا قد أصابت العملية التعليمية من مرحلتها الأولية حتى مرحلتها الجامعية، بالجمود والتقهقر وبالنقص والاعتوار.
ولذلك فإننا هنا نطرح البديل غير التقليدي الذي يكسر حواجز الجمود ويتجاوز النقص، ويتطلع إلى المستقبل بفكر واع وعقل مستنير واجتهاد حر ينشد الأفضل لوطنه وأمته. البديل هو الجامعة العربية المفتوحة التي لا تلغي دور الجامعات القائمة ولكنها تساعدها وتغذيها وتكمل رسالتها، ولكن بوسائل غير تقليدية وبمناهج حرة حديثة، وبالوصول إلى الطلاب في منازلهم وأماكن عملهم وإقامتهم، حيث هم لا حيث تقوم مباني الجامعة وقاعاتها وأساتذتها.
فبمقدار ما أصبح تحديث التعليم العالي في البلاد العربية مطلباً عاجلاً، ليتوافق مع حاجات المجتمع ويتلاءم مع متطلبات التنمية البشرية المستديمة، بمقدار ما أن الجامعة المفتوحة قد أصبحت مساعداً ملحاً للتعليم الجامعي الحالي المثقل بالأعباء والأمراض والعلل.
وأمامنا أسباب عديدة تدفعنا إلى إبداء الحماسة لإنشاء الجامعة العربية المفتوحة، لتكون رديفاً لمسيرة التعليم الجامعي العربي:
أولاً : لقد أتى ظهور الجامعات المفتوحة في العالم تلبية لزيادة المطالب الاجتماعية في التعليم، وامتداداً لتطوير العملية التعليمية في وقت تضيق الجامعات التقليدية القائمة عن استيعاب هذه المطالب المتزايدة.
ثانياً : إن تحقيق أهداف التنمية البشرية المستديمة في الدول العربية، لا يمكن أن يتم إلا بتطوير جذري في أساليب التعليم ومناهجه خصوصاً الجامعية، بينما نلاحظ أن الجامعات القائمة، وهي شديدة المحافظة والتقليدية، لا تدفع إلى سوق العمل من يستطيع المساهمة الجدية في تحقيق أهداف هذه التنمية المستهدفة .
ثالثاً : من ثم أصبح ضرورياً التفكير في أنماط تعليم جامعي جديد وجريء يقفز فوق هذه المصاعب، وليس أفضل من الجامعة المفتوحة بكل إمكاناتها العلمية والاتصالية والتقنية الحديثة التي أثبتت نجاحها في اكثر من دولة من دول العالم، لتكون هي طريقنا نحو توسيع دائرة المستفيدين وتعميق مناهج التعليم والتثقيف وتعويض الفئات المحرومة وتجديد معلومات الجميع وخفض التكاليف الإدارية والإنشائية وتقليل التكدس البشري حول المباني الجامعية في المدن والعواصم، وإعادة تأهيل الكادر الفني والإداري من شاغلي وظائف الدولة والقطاع الخاص، وتخفيف عبئ الاستيعاب والتنافس على دخول الجامعات القائمة والمساهمة بجدية أكثر في نشر العلم والوعي الثقافي في طبقات المجامع كافة.
ولا بد هنا أن يثور في الذهن أكثر من سؤال: فما هو الفرق مثلاُ بين الجامعة المفتوحة والجامعة التقليدية؟ ثم ما هو الفرق بين نظام التعليم في الجامعة المفتوحة ونظام التعليم بالانتساب بالجامعات التقليدية؟
وللإجابة عن ذلك، نكرر بعض ما سبق أن أوضحناه، وهو أن الجامعة المفتوحة تتميز بمرونة برامجها ومناهجها وأوقات الدراسة فيها، وتستجيب بالتالي متطلبات وظروف شرائح اجتماعية عديدة لا تستطيع أن تلتحق بالتعليم الجامعي العادي، لأسباب عديدة، سواء لأسباب مالية واقتصادية أو لأسباب إدارية وتنظيمية، ومن ثم فهي تجد في الجامعة المفتوحة، فرصة حرة لتعويض ما فاتها من تعليم جامعي ومن ارتقاء اجتماعي ومن تحسين للمستوى المعيشي والاقتصادي.
فإن كانت الجامعة التقليدية تقدم فرصاً تعليمية لعدد محدود من أفراد المجتمع وتعطيهم في نهاية سنوات الدراسة شهادة أكاديمية، فإن الجامعة المفتوحة تقدم فراً تعليمية كثيرة لأعداد كبيرة من شرائح المجتمع المختلفة، وهي تساهم بذلك في حل المشكلة الناجمة عن عجز الجامعات التقليدية عن استيعاب أعداد الطلبة المتزايدين الراغبين في التعليم العالي، خصوصاً الذي تحول نسبة القبول المرتفعة أو التكاليف المالية المتزايدة، عن التحاقهم بالجامعات العادية.
وفضلاً عن ذلك فإن الجامعة المفتوحة تتيح فرصاً واسعة لتطوير أداء العاملين في الدولة والقطاع الخاص، بحكم ما تجمعه برامجها من مزاوجة بين التعليم وضرورات العمل، ومن أجل ذلك فهي تتمتع بديناميكية الحركة ودوام التطور وملاحقة منجزات التقنيات الحديثة في الاتصال والمعلومات، بتكاليف أقل كثيراً مما تتطلبه الجامعات التقليدية بسب توفيرها تكاليف إنشاء المباني الجامعية وقاعات الدراسة وجيوش الموظفين والإداريين وهيئات التدريس. بل أنها بفضل استخدامها وسائط اتصال عالية التقنية تصل بسهولة إلى الملتقى والطالب في مكان إقامته، تحقق التواصل السريع والمباشر عبر الراديو أو التلفاز أو القناة الفضائية أو الحاسب الآلي أو شبكة الإنترنت المتعددة الغرض. فيكفي أن يمتلك الطالب حاسباً آلياً وبسيطاً، ليحقق الاتصال والتواصل مع الجامعة المفتوحة دون وسيط يحجب التفاعل المباشر الذي لم تعد تحققه جامعة الأعداد الكبيرة ولا حتى نظام الانتساب المعمول به حالياً.
ولعل هذا بالضبط هو الهدف التي تحاول الدول المتقدمة الوصول إليه بأسرع وقت وأقل جهد وأوفر تكلفة. لقد نامت أمريكا طويلاً على أنها الدولة الأكثر تقدماً، ثم صحت فجأة لتكتشف أن مع معدلات التقدم في دول أخرى مثل اليابان وألمانيا قد فاقت معدلاتها، وحين عكف الخبراء ومراكز الدراسة على البحث في الأسباب وضعوا أيديهم مباشرة على التعليم و التعليم المتوسط والعالي خصوصاً. الأمر الذي دفع المسئولين الأمريكيين إلى وضع خطة جديدة لتحديث التعليم وتطويره، تبلورت عملياً فيما عرف بـ "استراتيجية أمريكا سنة 2000م" التي اعتمدها الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش عام 1991 وصدرها بقوله "إن القرن الحادي والعشرين يجري نحونا مسرعاً، وعلى كل من يتساءل كيف سيكون هذا القرن، أن يقرأ الجواب في مناهج الدراسة الأمريكية" ولم يشذ الرئيس الأمريكي التالي بيل كلينتون عن هذا المنهج العلمي المتطور، إذ أنه هو الذي تعمد في أول رسالة للشعب الأمريكي بعد انتخابه، المضي قدماً في تطوير التعليم إلى أبعد مدى باعتباره عنصر التقدم في مضمار المنافسة العالمية الشرسة نحو سيادة المستقبل القريب والبعيد على السواء .
وغني عن البيان القول أن دولاً أخرى مثل اليابان وبريطانيا وألمانيا وفرنسا وكندا عكفت خلال العقدين الأخيرين على إعادة صوغ مناهجها التعليمية، وفق متطلبات التقدم السريع واستغلالاً لكل منجزات عصر العلم والتكنولوجيا، سباقاً مع الولايات المتحدة الأمريكية في وضع أسس المنافسة المفتوحة في عصر العولمة الجبارة الذي يتميز بتراكم المعرفة وتدق المعلومات وانفتاح الثقافات وتزاوج الحضارات.
وهاهي الصين، برغم كثافة سكانها الذين يزيدون على المليار، تحقق أعلى معدلات التنمية الاقتصادية في العالم – وفق أرقام عامي 1996 و 1997 التي قد تصل إلى أكثر من 10% - بفضل الثورة المستمرة التي أحدثتها في نظام تعليمها من مراحلها الابتدائية إلى مراحلها العالية والجامعية، بعدما أحست أن دولاً غربية كثيرة قد سبقتها في هذا المضمار، وكذلك الدول الأقل تقدماً مثل النمور الآسيوية التي ركزت جل اهتمامها على التعليم، وخصوصاً التعليم عبر الجامعات المفتوحة.
وكلها في النهاية، تجارب ناجحة لمجتمعات ناهضة وشعوب طامحة تشجعنا نحن العرب على الاقتداء بها تطلعاً نحو التقدم الذي ننشد، والانفتاح والحرية التي نريد، وتفعيلاً لحق رئيسي من حقوق الإنسان في التعلم والارتقاء والتقدم المعرفي والازدهار الثقافي.
ورغم جاذبية فكرة إنشاء الجامعة العربية المفتوحة، وحماستنا لها بل وتشجيع كثيرين من المتخصصين لها ولنا، إلا أننا ندرك أن المصاعب والعقبات عديدة تقف دوماً في طريق الجديد والجريء، لكنها عقبات ينبغي ألا تعوق أصحاب الرؤى الحرة والإرادة الصلبة والمبادرات الشجاعة عن التعرض لها و المجازفة بمواجهتها مواجهة الوحش في عينيه، إذ بدون مثل هذه المواجهة لا يحسم أمر ولا تتحقق نتيجة ولا يتسع أمل في غد أفضل، أكثر علماً و ثقافة، وأرحب حرية وإبداعاً.
إن اعتماد الواقعية منهاجاً وأسلوبا للتفكر والعمل، حتم علينا التعاطي مع الأمور بكل ما تحتويه من إيجابيات وسلبيات، وفي هذا الإطار ندرك تماماً أن المبادرة بالدعوة إلى إنشاء جامعة عربية مفتوحة وحرة تعني في المحصلة النهائية ثورة جديدة في مناهج تعليمنا وأساليب تفكيرنا وطرق إدارتنا، بل تعني قبل ذلك وبعده، حجم القرار السياسي.
فإن كان هذا القرار يهتم بحرية المواطنين وحقهم في المبادرة والإبداع، على قدم المساواة مع حقهم في التعليم والتثقيف، فإنه سيرحب بإنشاء جامعة عربية مفتوحة تترجم الانفتاح العلمي التعليمي والثقافي الاجتماعي.
والأمل لدينا أن يكون قرارنا السياسي أميل إلى الحرية والانفتاح والاستنارة، مشجعاً حاضناً لجامعة عربية مفتوحة لكل من يرغب في التعلم والاستزادة والتقدم.
ولذلك فإننا نتعهد أن نقدم إلى الرأي العام العربي تقريراً موضوعياً، سواء بالنجاح الذي نتمناه أو بالفشل الذي لا نتمناه، نكشف فيه بكل الصراحة التي أخذنا أنفسنا بها، عوامل النجاح أو أسباب الفشل. ولنا في كل الظروف اجر الاجتهاد.
وعلى الله قصد السبيل.